من الأمور القليلة التى لا يختلف عليها المصريون - بغض النظر عن توجهاتهم السياسية أو خلفيتهم التعليمية أو الطبقة الإجتماعية التى ينتموا إليها - أن حالة التعليم فى مصر يرثى لها. ومعظم المسؤولين عن التعليم يعترفوا بذلك بشجاعة لا يملكها من أداروا أو يديرون حاليا ملفات تنموية أخرى. وفى نفس الوقت فإن الحديث عن أهمية التعليم لا يتوقف، وعبارات مثل «التعليم هو المشروع القومي» تتكرر فى كل مناسبة. وفى الوقت ذاته نجد أن الأسرة المصرية لا تبخل بالإنفاق على تعليم أبنائها على قدر طاقتها وكثيرا ما يكون إنفاقها أعلى من طاقتها. فالأسر الثرية ترسل أبنائها إلى المدارس الدولية أو الخاصة باهظة التكاليف، وترسل أو تتمنى إرسال أبنائها للتعليم خارج مصر، والأسر الأقل قدرة ترسل أبنائها للتعليم الخاص على أمل أن يكون طوق النجاة ولا تبخل فى نفس الوقت على الإنفاق على الدروس الخصوصية والأسر الفقيرة تستقطع من قوتها لتلحق أبنائها بمجموعات التقوية ويراودها الأمل أن يعيش أبناؤهم حياة أفضل من آبائهم، ويدركون بفطرتهم أن الحراك الاجتماعى لن يتحقق إلا من خلال الشهادة الجامعية.
تجربة تستحق أن نتوقف عندها. قام معهد ماساشوتس للتكنولوجيا (MIT) بتجربة فريدة تستحق أن يتدارسها كل المهتمين بالتعليم فى مصر. ففى فبراير 2012، قام فريق من الباحثين بقيادة نيكولاس نيجروبونتى بتوزيع أجهزة حاسوب من النوع اللوحى (tablet) والذى يعمل بالطاقة الشمسية على أطفال قريتين فى إثيوبيا، وهى قرية «ونشير» وقرية «ولنشيت»، وتم تزويد هذه الأجهزة ببرامج تعليمية كتجربة لقياس تأثير التعليم الإلكترونى كأحد الحلول الإبداعية لإحداث نقلة نوعية فى التعليم. وقد تم اختيار هاتين القريتين بعناية وبناء على معايير محددة. ماذا كانت معايير اختيار القريتين؟ لقد قرر القائمون على الدراسة أن يختاروا تجريب هذا الأسلوب فى قرى لا يوجد بها أى إنسان يجيد القراءة أو الكتابة. أى أن كل طفل تم اختياره للمشاركة فى هذه التجربة لا يوجد حوله أى مصدر للتعلم سوى جهاز الحاسوب الذى حصل عليه. ويشير القائمون على التجربة إلى أن القرى المختارة لا توجد بها أى استخدام للكتابة كأسماء شوارع أو إعلانات تستخدم حروف الكتابة، أى أن البيئة التى يعيش فيها أطفال القرية خالية من أية محفذات معرفية.
وقد تم تزويد كل جهاز حاسب بحوالى خمسمائة تطبيق لألعاب تعليمية وأفلام أطفال وكتب أطفال. وكان الهدف المباشر للتجربة هو الإجابة عن السؤال التالى: هل يستطيع هؤلاء الأطفال قراءة اللغة الإنجليزية دون أن يكونوا ملتحقين بمدارس، اعتمادا على الحاسوب فقط وفى بيئة غير داعمة للتعلم؟. وقد تم تزويد الأجهزة ببرنامج يسمح بالتعرف على نمط ودورية إستخدام الأطفال لإمكانية التقييم الدورى للتجربة. وأظهرت الدراسة أنه بعد مرور خمسة أيام فقط قام التلاميذ باستخدام 47 تطبيقا يوميا فى المتوسط، وبعد مرور أسبوعين كان الأطفال ينشدون أغنية لتعليم حروف الأبجدية الإنجليزية. وكان جهاز الحاسوب يحتوى على كاميرا ولكن التطبيق لم يكن متاحا للاستخدام وقد تمكن أحد أطفال القرية من الدخول على البرنامج لتفعيل قدرة الجهاز على التقاط الصور وتداول الأطفال هذه المعرفة وانتشر استخدام الحاسوب فى التقاط الصور بين أطفال القرية. وتشير الدراسة إلى أن تطور القدرات المعرفية لأطفال القريتين تشير إلى أنهم فى الطريق إلى تعلم القراءة معتمدين على الحاسوب دون مدارس أو مدرسين.
التطبيق فى السياق المصرى
بالطبع التعليم الرسمى له مزاياه التى لا يمكن إنكارها، ولكن فى السياق المصرى الحالى فإن الواقع يشير إلى أن التعليم الرسمى ينتج عنه أميون حتى بعد قضاء 8 سنوات داخل جدران المدرسة.
كما أن مستويات الإنجاب غير المسبوقة التى شهدتها مصر فى السنوات الأخيرة ستؤدى إلى زيادة كبيرة فى أعداد الأطفال المطلوب إلحاقهم فى منظومة تعليم تحاول جاهدة الارتقاء بجودة التعليم فى ظل إمكانات محدودة. وحتى نفصل ذلك نشير إلى أن عدد المواليد فى مصر والذى كان يبلغ مليون و850 ألفا عام 2006، قد ارتفع فى السنوات التالية لكسر حاجز المليونين ثم حاجز المليونين ونصف المليون ليصل فى عام 2012 إلى مليونين و600 ألف مولود، أى بزيادة 40% فى ست سنوات. وهو ما يعنى أنه لابد من زيادة عدد الفصول بنفس النسبة (40%) للمحافظة على كثافة الفصول والتى تعتبر حاليا مانعة لأى تحسين فى جودة التعليم.
فى ضوء تردى مستوى التعليم الذى يُقدم فى مدارسنا الحكومية والخاصة أيضا والتحديات التى تواجه الإرتقاء بجودة التعليم نظرا لمحدودية الموارد وضعف القدرات البشرية القائمة على التعليم، وفى ضوء التحديات المستقبلية المتمثلة فى زيادة كبيرة فى عدد التلاميذ يحتاج كل منهم لمقعد فى منظومة تعليمية ضاقت بمن فيها، ألا يجب أن نطبق الحلول غير التقليدية، وعلى رأسها التعليم الإلكترونى الذى لا يحتاج إلى بناء مزيد من المدارس وإلى تعيين مزيد من المعلمين. ولكل من يبكى على الدور التربوى للمدرسة فالواقع يشير إلى أنه سراب، والأفضل أن يكون لدينا تعليم بلا مدارس عن أن يكون لدينا مدارس بلا تعليم.
أتمنى أن يكون التعلم الإلكترونى هو مشروع مصر القادم، وأتمنى ألا نسير فيه ببطء السلحفاة وجبن النعامة، وألا نتعامل معه بأسلوب التجريب المحدود الذى يؤدى فى النهاية إلى فتور الهمم. فالتجربة التى أشرت إليها تثبت أن آفاق التعلم الإلكترونى غير محدودة وترد على الذين يقاومون التغيير ولا يؤمنون بقدرة التكنولوجيا على تبديل الواقع. وهذه التجربة نجحت فى ظروف أشد قسوة من الظروف الحياتية للقرى المصرية، ويمكنها أن تنجح فى مصر ويكون لها تأثير مذهل إذا ما طبقت فى القرى المصرية الفقيرة فى الحد من الفقر وفى إحداث حراك مجتمعى أصبح من أساطير الماضى. ولعلنا بذلك نعوض سكان هذه القرى عن الحرمان والظلم الذى لحق بهم. ودعونا لا نصغى لمن يصف هذا المشروع بأن تنفيذه ترف لا نقدر عليه، لأن الواقع يقول أن عدم تنفيذه هو الترف الذى لا نقدر عليه.
الشروق