دخلت خدمة السكك الحديدية مصر فى عام 1856 أى منذ أكثر من 150 سنة. وتعتبر مصر الدولة الثانية فى إدخال السكة الحديد بعد إنجلترا التى أنشأت أول خط سكة حديدية عام 1830. وساعد على ذلك موقع مصر الجغرافى الفريد كممر للتجارة الدولية بين أوروبا وآسيا. وكان إنشاء خط السكة الحديدية سابقا على حفر قناة السويس. وتم تكليف روبرت ستيفنسن، ابن مخترع القطار، لإقامة المشروع وأشرف على جلب كل المعدات اللازمة، وبدأ العمل فيه سنة 1852 وتم خلال أربع سنوات.
ويمثل القطار نموذج الدقة والانضباط فى الوقت، والراحة والأمان فى الترحال. ويُنظر إلى القطار على أنه كائن يمضى فى طريقه وفق برنامج زمنى دقيق ومسارات ثابتة معدة سلفا وبسرعات مدروسة، وهو مبرمج على الوقوف فى محطات محددة وله أولوية المرور على غيره ولا يستجيب للمتغيرات العشوائية وللمفاجآت غير المخططة، يمشى فى طريقه بتصميم وإصرار «يفرم» من يقف فى طريقة دون رحمة حتى إنه أصبح أداة ناجعة لانتحار اليائسين من الحياة من أمثال أنا كارنينا بطلة قصة تولستوى.
ويرتبط القطار فى الثقافة المصرية بالحراك الجغرافى الذى لا يخلو من حراك اجتماعى واقتصادى يتمثل فى انتقال أهل الريف إلى البندر وانتقال أهل المدن المتوسطة إلى العاصمة، حتى إن محطة السكة الحديد فى الإسكندرية تسمى محطة مصر. كما يرتبط بفراق الأحبة والأهل، واحتل القطار ــ الذى أطلق عليه الوابور ــ مساحة لا بأس بها فى الفن المصرى، حيث أفرد له محمد عبدالوهاب أغنية «يا وابور قول لى رايح على فين» كما تغنت به عفاف راضى فى أغنيتها «يا وابور الساعة 12».
ويحتاج القطار ــ الذى يمضى فى طريقه دون أن يبالى بمن يقف فى طريقة ــ إلى بيئة محيطة تنظم سلوكيات وتعاملات الأفراد والمؤسسات التى تتقاطع معه فى الزمان والمكان، ويجب بداهة ألا تقل هذه البيئة فى انضباطها عن مستوى انضباط هذا الكائن الصارم. والنافذة الرئيسية التى يتم التفاعل من خلالها مع القطار هى المزلقان. والمزلقان ليس مجرد مكان ولكنه ثقافة تغلغلت فى الوجدان. وهذه الثقافة لها عناصر عديدة لا تفسر حوادث القطارات فقط ولكن إذا تأملناها بقدر أكبر من العمق لوجدنا أنها قاسم مشترك فى أسلوب إدارتنا للأمور التى تواجهنا وهى تفسر أيضا كثيرًا من الإخفاقات التى عاشتها وتعيشها مصر. وفيما يلى بعض هذه العناصر:
التواكل وغياب إعمال العقل: ويتمثل ذلك فى حالة حوادث القطارات فى سلوك سائقى المركبات الذين يخاطرون بعبور المزلقان بطريقة خاطئة دون أى مراعاة للخطر الناجم عن هذا التصرف الذى يغتال فى لحظات أرواحًا بريئة ويخلف جرحى ومصابين قد يعانون طوال حياتهم من تصرف أرعن. وهذه السلوكيات لا تقتصر فقط على التعامل مع القطار ولكنها تتكرر يوميا كمسبب رئيسى لحوادث الطرق من خلال عبور الطريق فى غير الأماكن المخصصة لذلك، ولإصابات العمل نتيجة عدم الالتزام بقواعد السلامة المهنية فى المصانع والورش، وعدم الالتزام بمواصفات التشغيل كتحميل أعداد زائدة فى العبارات والمعديات وارتفاعات مخالفة فى المبانى وعدم الاحتفاظ بطفايات حريق.
الزهو بتحدى النظام العام: ولعل أحد الأرقام الصادمة هو أن عدد المزلقانات الرسمية 1350 مزلقانا، ولكن يوجد نحو 2000 مزلقان أقامها الأهالى بشكل عشوائى ربما لتحدى القطار الذى يعبر عن النظام العام. ولا يبتعد عن ذلك كثيرا المقاهى التى تشغل الأرصفة وبائعى الملابس الذين لم يكتفوا بالأرصفة ولكن شغلوا أهم طرق وسط البلد، كما أن استخدام المتظاهرين للعنف والسير عكس الاتجاه وعدم استخدام حزام الأمان هى مظاهر للزهو بتحدى النظام العام.
تأجيل مواجهة المشكلات حتى تتفاقم: تكرر ذلك فى صيانة قطارات السكك الحديدية وفى تطوير المزلقانات، ولكنه نمط إدارة أيضا فى التعامل مع قضية التعليم ومع إعادة هيكلة المؤسسات الاقتصادية ووسائل الإعلام المملوكة للدولة ومع البناء على الأرض الزراعية وزحف العشوائيات وتنظيم التوك توك والميكروباصات.
إعادة إنتاج أخطاء الماضى وضعف الذاكرة المؤسسية: وتمثل ذلك فى تكرار سيناريوهات ومسببات حوادث القطارات، كما يتمثل الآن فى إعادة انتاج سلبيات القطاع العام والتسعيرة الجبرية والاستمرار فى تشغيل المقطورات المسببة لحوادث الطرق.
عدم مصارحة الجماهير وعدم واقعية التصريحات الحكومية: وعلى سبيل المثال، الحديث عن خطة الدولة لتطوير 77 مزلقانا فى وجود 1350 مزلقانا رسميا و2000 مزلقان غير رسمى هو استخفاف بالعقول لا يمكن أن يكون غير مقصود. وهذا التصريح يشبه تصريح إعادة هيكلة الدعم حتى يصل إلى مستحقيه والذى حرص وزراء تموين مصر فى كل العصور على تأكيده (وجدت هذا التصريح على لسان الدكتور فؤاد مرسى الذى كان وزيرا للتموين فى السبعينيات). وينسحب ذلك أيضا على التصريح الشهير للرئيس السابق حول الاكتفاء الذاتى من القمح. ومثل هذه التصريحات وما أكثرها لا تزيد الحكومات إلا قبحا وتجعل العثور على مواطن يثق فى الدولة أصعب من العثور على العنقاء أو العثور على الخل الوفى.
الاهتمام بالشكل أكثر من المضمون: وعلى سبيل المثال نال تطوير المحطات اهتماما أكبر من صيانة القطارات أو من تأمين المزلقانات. وهذا النموذج تكرر فى قطاعات أخرى مثل الاهتمام باستحداث «لوجو» جديد لمؤسسات حكومية دون تطوير أداء منظومة العمل بها أو إنفاق مصروفات طائلة من ميزانيات مشروعات تنموية على حفلات افتتاح باهظة التكلفة.
تحميل المسئولية للغير أو البحث عن الشماعة: حوادث القطارات ينتج عنها عادة ضحايا وتثير ردود أفعال تبدأ عنيفة وصاخبة لتتلاشى بسرعة دون أن تترجم إلى طاقة للتغيير. وتصبح مهمة المسئول الأكبر هى تقدير الموقف هل يقيل الوزير لاستيعاب الرأى العام على الرغم من قناعته بكفاءة الوزير أو على الأقل بأن إقالته لن تحل المشكلة. أم يتحمل المسئولية السياسية لاستمرار الوزير فى مكانه بكل ما فى ذلك من مخاطرة. وفى ذات الوقت فإن الوزير يعلم أنه قد يقال عند أول حادثة قطار حتى لو لم يكن مسئولا عنها وحتى لو كان الجميع يعلمون أنه لا يملك الأدوات التى تحول دون حدوثها. وحدث ذلك أيضا فى مواقف عديدة بداية من حرب 1967، ومرورا بمسئولية المحافظين عن انهيار العقارات المخالفة وانتهاء بأزمة البوتاجاز.
هل أصبحت ثقافة المزلقان هى الثقافة التى تحكم تصرفات المصريين حكومة وشعبا؟
ثقافة المزلقان هى مجموعة ثقوب فى الوجدان المصرى تحتاج إلى ثورة، ولا أقصد ثورة فصيل سياسى على آخر، ولكن أقصد ثورة ثقافية يثور من خلالها كل المصريون على أنفسهم لرأب الصدع الذى أصابنا، ولندع السياسة جانبا ونؤجل الصراع على قيادة السفينة لما بعد سد الثقوب التى ستغرقها.
الشروق