حالة الاستقطاب الحاد التى تشهدها مصر تبدو واضحة فى كل النقاشات التى يشهدها المجال العام. وقبل ثورة 25 يناير كانت أغلبية المجتمع المصرى منصرفة عن الاكتراث بالشأن العام ومنشغلة بتدبير أمورها الحياتية دون وجود رابط بين إصلاح الشأن العام وتحسن الأحوال المعيشية للمواطن، أى دون وجود صلة بين الكل والجزء. وأحد الإنجازات المهمة لثورة 25 يناير هى التحول فى المزاج العام نحو اهتمام غير مسبوق بالشأن العام مع تميز المجال العام بحالة من الانقسام الحاد فى الرأى إلى نصفين أو إلى قسمين متقاربين فى العدد.
ويتسق هذا التقسيم إلى حد كبير مع نتيجة التصويت فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتى يمكن تلخيصها فى أن عددا أكبر من الناخبين ساند حكما ذا مرجعية إسلامية أو رفض أى صلة بالنظام السابق، وأن عددا أقل بقليل من الناخبين رفض حكما ذا مرجعية إسلامية أو لم يمانع من حكم له صلة بالنظام السابق. ويبدو هذا التقسيم مماثلا لخريطة الرأى العام التى تتشكل حول معظم الموضوعات المطروحة على الساحة السياسية. ونتائج استطلاعات الرأى العام التى أجراها المركز المصرى لبحوث الرأى العام «بصيرة» منذ انتهاء أول انتخابات ديمقراطية على مقعد الرئاسة تشير إلى انقسام الشعب المصرى إلى جزأين متقاربين. وأنه بغض النظر عن الموضوع المطروح يكاد لا يوجد إجماع بين المصريين على شىء. وعلى سبيل المثال، مدى الموافقة على تعيين مسيحى أو تعيين امرأة فى موقع نائب الرئيس أو الموافقة على قرار الرئيس بعودة مجلس الشعب أو الموافقة على إلغاء الإعلان الدستورى المكمل أو الموافقة على التغييرات فى قيادة القوات المسلحة لم يكن هناك إجماع واضح على أى من هذه الأمور، حيث تراوحت نسب الموافقة بين 53% و66%.
وإحدى الملاحظات اللافتة للانتباه فيما يتعلق باستطلاع الرأى العام الخاص بمدى الموافقة على قرار الرئيس بعودة مجلس الشعب أنه عند السؤال حول تقييم رد فعل الشعب لهذا القرار كانت أغلبية طاغية من الموافقين على القرار ترى أن الشعب سيوافق على هذا القرار. وفى المقابل كانت أغلبية طاغية من المعارضين للقرار ترى أن الشعب سيعترض على قرار الرئيس. ومبعث الدهشة ليس فى الانقسام حول تقييم القرار وإنما القناعة بأن الآخرين يتبنون بالضرورة نفس الرأى. وهنا تكمن الخطورة فى عدم توقع وجود رأى مخالف ومن ثم عدم تحمل وجود رأى آخر وعدم إمكانية التعامل معه بأسلوب ناضج.
ونعرض فيما يلى لنتائج استطلاع الرأى الذى أجراه المركز المصرى لبحوث الرأى العام (بصيرة) بعد مرور 60 يوما على تقلد الرئيس مرسى مقعد الرئاسة، والتى تؤيد ما سبق الإشارة إليه.
ــ أشارت النتائج إلى تفاوتات بسيطة فى نسب الموافقين على أداء الرئيس حسب المستوى التعليمى، حيث وافق 72% من الجامعيين مقابل 77% من الحاصلين على مؤهل أقل من المتوسط على أداء الرئيس.
ــ أشارت النتائج إلى تفاوتات بسيطة فى نسب الموافقين على أداء الرئيس حسب محل الإقامة، حيث وافق 76% من سكان الحضر مقابل 79% من سكان الريف على أداء الرئيس.
ــ كانت التفاوتات فى نسبة الموافقين لا تختلف كثيرا بين الشريحة العمرية الأصغر (أقل من 30 سنة) والشريحة العمريية الأكبر (50 سنة فأكثر) بفارق 1% بين النسبتين، وبالمثل لم تختلف نسبة الموافقة بين المنتمين إلى المستوى الاقتصادى المرتفع والمنخفض.
ــ فى المقابل كانت نسبة الموافقة على أداء الرئيس 96% بين الذين ذكروا أنهم اختاروه فى انتخابات الرئاسة مقابل 57% بين الذين ذكروا أنهم اختاروا المرشح أحمد شفيق، بفارق حوالى 39%، وهو فارق يفوق بكثير الفجوة بين الأجيال أو فجوة الفارق فى الثروة أو فى التعليم أو فى التحضر.
وقد يرى البعض أنه ليس من المستغرب أن يوافق أنصار المرشح على أدائه، وأن يعترض الآخرون على أدائه. إلا أن نفس النمط أيضا تكرر عند تقييم المواطنين لقرار إلغاء الإعلان الدستورى أو فتح المعابر أو إقالة المشير، وهى قرارات لا تنبع بشكل مباشر من برنامج الرئيس مرسى الانتخابى ولا تتناقض بالضرورة مع برنامج المرشح أحمد شفيق. والفجوة الواسعة بين الموافقين على أى من هذه القرارات داخل الفصيل الذى ذكر أنه انتخب الرئيس محمد مرسى والفصيل الذى ذكر أنه انتخب المرشح أحمد شفيق يشير إلى أن الوفاق الوطنى حول العديد من القضايا العامة هو التحدى الأكبر الذى يواجه المجتمع المصرى ولا يقل عن تحدى استعادة الأمن أو إنعاش الاقتصاد.
وفى رأيى أن حالة الاستقطاب التى تسود المجتمع المصرى ربما تكون نتيجة طبيعية للاهتمام المتزايد بالشأن العام والحرص على المشاركة فى صياغة المستقبل، وهى جوانب إيجابية يجب أن نقدرها على الرغم من سلبيات تعترى الممارسة. كما أن هذه الحالة لا تشكل خطرا فى حد ذاتها، وأن مكمن الخطر هو فى تبعاتها والمتمثلة فى عدم القدرة على تحقيق حد أدنى من التوافق بين الفصائل التى لا تختلف على إعلاء مصلحة الوطن وإنما تختلف على السبيل إلى ذلك.
وعملية الاستقطاب المبنى على الانتماء السياسى فقط تطلق جرس إنذار لاسيما وأنها تطغى على تباينات صحية فى المجتمعات مثل التباينات بين الشباب وكبار السن والتى تؤدى إلى ضخ دماء جديدة وإضافة حيوية ينتج عنها تحديث للمجتمع، والتباينات بين المتعلمين والأقل تعليما والتى تضيف قوة العلم والمعرفة ضمن معادلة تطوير المجتمعات. وفى ظل اشتداد حدة الاستقطاب المبنى على أساس الانتماء السياسى يتوارى مبدأ «رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب». ويتراجع منهج «فلنتعاون فيما اتفقنا فيه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا عليه»، ليحل محله التخوين والتصنيف والتكفير واتهامات العمالة والتبعية والحصول على تمويل أجنبى وتنفيذ أجندات غير وطنية بين أصحاب الآراء المختلفة حتى وإن كان المشترك بينهم يسمح بتحقيق مصلحة وطنية.
الشروق