Baseerasincolor - the campaign
<

ماهى العلاقة بين الإحصاء والسياسة؟


د. على الدين هلال

مايو-2025



قد يبدو عنوان هذا المقال غريبا للوهلة الأولى، ولكن بعد تفكير سوف تتضح العلاقة الوثيقة بين الإحصاء والسياسة، وهو موضوع الكتاب الذى ألفه د. ماجد عثمان بعنوان « الإحصاء والسياسة:بين قوة الأدلة وسطوة السُلطة»، والذى لخص فيه المؤلف خبرته الطويلة على المستويين النظرى والعملي، فهو صاحب الخبرات الطويلة والمتعددة فى تدريس الإحصاء بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، والذى عمل كمدير للمركز الديمُجرافي، ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، ومركز بصيرة، كما تولى وزارة الاتصالات.وقد أهلته تلك الخبرات للكتابة فى هذا الموضوع وسبر أغواره.

عادة ما ينظر الناس إلى العمل الإحصائى على أنه مجموعة أرقام وجداول وأشكال لا يمكن للإنسان العادى متابعتها، وهو انطباع صحيح لأن كثيرًا من العاملين فى مجال الإحصاء يركزون على الجوانب الرقمية والرياضية، دون توضيح الدلالة الاجتماعية لذلك. وبالنسبة لي، فقد كنت سعيد الحظ عندما التحقت بكلية الاقتصاد عام 1960، درست مقرر مبادئ الإحصاء فى السنة الأولى على يد د. عبدالمجيد فراج، الذى سعى لتقديم الإحصاء على أنه علم اجتماعى يستخدم الإحصاءات للتعبيرعن مشاكل المجتمع وتقديم الحلول لها. وها هو هذا الكتاب يواصل نفس الاتجاه، فيحدد المؤلف هدفه فى «تقديم رؤية منهجية/ عملية للعلاقة بين الإحصاء والسياسة»، بما يعنى تجسير الفجوة بين الإحصاء وباحثى العلوم السياسية.

طرح الكتاب مفاهيم جديدة لإبراز الصلة بين الإحصاء والعلوم الاجتماعية خصوصا السياسة. منها، «التفكير الإحصائي» كمنهج حياة وليس مجرد مجموعة من الأساليب والقواعد الفنية. ومفهوم «السردية الإحصائية»، الذى يتناول ظاهرة انتشار وتداول المعلومات المضللة والخاطئة، وظاهرة تسييس نتائج العمل الإحصائى وتفسيرها لخدمة وجهة نظر سياسية دون غيرها. وللدلالة على ذلك، يورد الكتاب عددًا من الحالات لسرديات كمية مختلفة بل ومتعارضة لنفس البيانات، وينصح القارئ بضرورة توخى الحذر وتبنى النظرة النقدية عند الاطلاع على تلك السرديات. وكذلك مفهوم «سلسلة القيمة الإحصائية» التى تتكون من ست حلقات،هي: جمع البيانات، وصفها وتلخيصها، وتحليلها، وتداولها ونشرها، واتخاذ القرارات، وصنع السياسات.

ناقش الكتاب أيضا موضوعات تربط بين الإحصاء والسياسة، مثل «الإحصاء والحكم الرشيد»، و«حوكمة البيانات» والتوازن بين الإتاحة واعتبارات الأمن القومي، والذى ناقشه تقرير البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة عن التنمية البشرية لعام 1994. هذا أخذا بعين الاعتبار أن نفس الإحصاءات يمكن استخدامها لحماية الأمن القومى أو لتهديده، ويتوقف ذلك على من يستخدمها وكيفية استخدامها.

كما تناول موضوعات حوكمة النظام الإحصائى على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية، والعلاقة بين حوكمة النظام الإحصائى ومدى استقلاليته أو تبعيته. ومن خلال دراسته لعدد من النماذج، يوضح المكاسب التى تجنيها الدولة والمجتمع من ضمان استقلالية وحرفية النظام، فقد تبين بجلاء أن أحد أهم أسباب نجاح بعض الدول فى تحقيق التنمية وتعثر أُخرى هو مدى توافر البيانات المتعلقة بالتنمية،ودرجة دقتها وجودتها. وعرض د. ماجد لنماذج واقعية فى العلاقة بين الإحصاء والسياسة غطت عشرين دولة متقدمة ونامية، ديمقراطية وغير ديمقراطية، ومن مختلف القارات. وتضمن بعضها التدخل السياسى للتأثير على نتائج العمل الإحصائى حتى يقبلها الرأى العام،مثل تدخل الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون فى تحديد مؤشرات البطالة، وإنكار الرئيس التنزانى ماجوفولى لوجود وباء جائحة كوفيد -19 ومن ثم عدم متابعة حالات الإصابة والوفاة. كما شملت حالات كثيرة للتعاون الإيجابى بين الحكومة والمنظومة الإحصائية.

الحقيقة، أن العلاقة بين السياسة والإحصاء علاقة عضوية وثيقة، ولا يمكن لأى حكومة أن تدير شئونها، وتتعرف على أولوية المشكلات، وتضع السياسات العامة بدون أرقام وإحصاءات. فالإحصاءات تقدم صورة الواقع الاقتصادى والاجتماعى والثقافى والسياسي، الذى يجب على الدول والحكومات التعامل معه. وهكذا، فإن البيانات والمعلومات والإحصاءات الموثوق بها هى أساس صنع القرارات ورسم السياسات، سواء على مستوى الحكومات أو الشركات وهيئات المجتمع المدني، وحتى الأفراد. من ناحية أخرى، فان هذه البيانات والإحصاءات ضرورية للأجهزة التشريعية فى متابعة العمل الحكومي، والرقابة على الإنفاق العام وتحقيق السياسات لأهدافها.

يشير الكتاب إلى عدد من المجالات التى تبين الصلة الوثيقة بين الإحصاء والسياسة. ومنها على سبيل المثال، قياس اتجاهات الرأى العام، فلا يمكن الفصل بين المناخ السياسى العام فى بلد ما، واستعداد أو قدرة الأفراد على التعبير عن رأيهم. عرض الكتاب لعدد من البحوث الإحصائية عن قياس الرضاء العام على القيادات والحكومات والمؤسسات، ووصل إلى أن السياسيين عادة ما يرفضون نتائج استطلاعات الرأي، إذا لم تتوافق مع توقعاتهم ومصالحهم.

أسهمت البحوث الإحصائية بدور كبير فى تحليل بيانات الانتخابات، وحقوق الإنسان، والإعلام والحوكمة، ووصل الكتاب إلى نتيجة أن عملية جمع البيانات وتبويبها وتحليلها تتأثر بالواقع والاعتبارات السياسية، وأن المقاييس الإحصائية يُمكن أن تعطى نتائج وتفسيرات مُختلفة، ويتأثر اختيارها بالأولويات السياسية.

واتصالا بذلك، يشير إلى المؤشرات الإحصائية المركبة التى تجمع بين الوقائع والمدركات، واستخدامها فى متابعة ورصد التطورات التنموية، والتى تركز إما على المدخلات أى الأنشطة والموازنات التى يتم استخدامها لتنفيذ خطة أو مشروع ما، أو على المخرجات بمعنى النتائج المتحققة والتأثير على التنمية، وقياس الأثر. ثم يقترح المؤلف رؤية مستقبلية لعلاقة الإحصاء والسياسة فى ضوء التقدم المطرد فى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبيانات الضخمة، واتساع تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

ويبقى القول إنه ينبغى التمييز بين الالتزام بقيم العلم والنزاهة العلميةمع التأثر باعتبارات الواقع السياسى من ناحية، وتسييس الممارسة الإحصائية بتصميم البحث ابتداء الخدمة وجهة نظر معينة أو توظيف نتائج البحث سياسيا من ناحية أُخرى.



الأهرام