عملية اتخاذ القرار؛ ومن ثَم صياغة السياسات لها شق فنى وآخر سياسى، ويعتمد الشق الفنى على الأدلة والقرائن من خلال جمع بيانات دقيقة ومحدثة، يتم تلخيصها وتحليلها وتفسيرها على نحو سليم، كما يعتمد على المعرفة بالخبرات الوطنية والدولية، وعلى الاستفادة من آراء الخبراء فى كافة المجالات المتصلة بموضوع القرار المطلوب اتخاذه. وفى المقابل يعتمد الشق السياسى على جوانب مرتبطة بالملاءمة، وبالمصالح السياسية التى يمكن تحققها، وبالمخاطر التى يجب تجنبها، وبتوقيت تنفيذ القرار المتخذ، وبمدى شعبية هذا القرار، وردود الفعل المتوقعة لجماعات الضغط، وموقع الموضوع فى سلم الأولويات، وتكلفته مقارنة بتكلفة بدائل أخرى. وعملية اتخاذ القرارات التى يفترض أن تعتمد على القرائن هى مجال خصب للتفاعل بين العمل الإحصائى والعمل السياسى.
نماذج للتوترات:
نظرًا لأن مهنة الإحصاء تسعى إلى تكميم الظواهر السياسية، ولكون المقاييس الكمية تعبر عن الحقيقة بشكل محايد؛ فإن التاريخ الحديث يمتلئ بوقائع تعكس توتر العلاقة بين منتجى الإحصاءات والسياسيين. ومع حدوث بعض التحسن التدريجى على الضوابط التى تحكم العمل الإحصائى، إلا أن الصراعات والتنافسات السياسية ما زالت تنعكس على استقلالية العمل الإحصائى. ففى الولايات المتحدة تتصادم الأيديولوجيا السياسية مع الأساليب المنهجية لإجراء التعداد السكانى، حيث تصبح منهجية إجراء التعداد –والذى يعتمد عليه فى توزيع الدوائر على الولايات- فى بؤرة الصراع السياسى بين الحزبين الجمهورى والديمقراطي؛ إذ يتبنى الحزب الديمقراطى استخدام عينة مكملة للتعداد؛ وذلك لمعالجة القصور فى تسجيل الفئات الأكثر فقرًا، فى حين يرى الحزب الجمهورى الاقتصار على نتائج أسلوب الحصر الشامل التى تصب فى مصلحته؛ لأنها ترصد نسبة أقل من المواطنين الذين يعيشون فى مناطق أكثر فقرًا. وفى كندا، اتخذت حكومة المحافظين فى عام ٢٠١٠ قرارًا باستبدال التعداد السكانى الشامل بمسح للأسر المعيشية، على الرغم من معارضة واسعة من معظم الإحصائيين وعلماء الاجتماع ومستخدمى البيانات وحكومات المقاطعات، وبلغت الأزمة ذروتها باستقالة كبير الإحصائيين منير شيخ. وبمجرد انتخاب الحكومة الليبرالية الجديدة سنة ٢٠١٥، أعلنت العودة إلى الوضع السابق فيما يتعلق بالتعداد السكانى، ووعدت بقانون جديد لتعزيز استقلال هيئة الإحصاء الكندية؛ ومع ذلك، فى سبتمبر ٢٠١٦، تكررت الواقعة؛ إذ استقال كبير الإحصائيين واين سميث، احتجاجًا على قانون الإحصاء الجديد؛ لأنه لا يحمى استقلال هيئة الإحصاء الكندية، ولم يعالج ما اعتبره تهديدًا رئيسيًّا؛ وهو خسارة الهيئة للسيطرة على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات.
وتمثل حالة اليونان نموذجًا لتوتر العلاقة بين الأجهزة الوطنية والأجهزة الإقليمية، حيث نشأ نزاع دام عقدًا من الزمن بين دائرة الإحصاء الوطنية اليونانية (NSSG) والوكالة الإحصائية للاتحاد الأوروبى (EUROSTAT) حول دقة إحصاءات الديون والعجز المالي؛ أدى ذلك إلى سن قانون جديد للإحصاء سنة ٢٠١٠، وإعادة هيكلة لدائرة الإحصاء الوطنية وتعيين رئيس جديد لها. وأعادت هذه التغييرات الانسجام بين النظام الإحصائى اليونانى (ELSTAT) والسلطات الأوروبية، إلا أن الصراع انتقل إلى المؤسسات اليونانية. فمنذ بداية فترة ولايته، تم اتهام أندرياس جورجيو (Andreas Georgiou) رئيس الجهاز الإحصائى اليونانى بتزوير البيانات -لصالح دائنى اليونان- وتم تقديمه إلى سلسلة من التحقيقات والمحاكمات. وفى فرنسا، نشر عدد من الإحصائيين تحت اسم مستعار «لورين داتا» (Lorraine Data) فى عام ٢٠٠٩، كتابًا بعنوان «التزوير الكبير: كيف تتلاعب الحكومة بالإحصاءات؟» يدين تزوير الحكومة وتلاعبها بالإحصاءات الرسمية. وبطبيعة الحال، كان الصراع بين الإحصاء والسياسة أكثر احتدامًا فى الدول النامية، ففى الأرجنتين أدى التدخل الحكومى المباشر فى تعريف وأسلوب حساب مؤشر تكلفة المعيشة، واستبدال الموظفين المحترفين بآخرين محل ثقة خلال سنوات رئاسة كريستينا كيرشنر، والتى امتدت من ٢٠٠٧ إلى ٢٠١٥؛ إلى تدمير الثقة فى عمل المعهد الوطنى للإحصاء والتعداد. وخلال الأشهر الستة الأولى من عام ٢٠١٦، أعلنت حكومة يمين الوسط الجديدة أن الأرجنتين فى حالة «طوارئ إحصائية وطنية»؛ إذ توقف الجهاز الإحصائى عن إنتاج المؤشرات الرئيسية، ومنها الناتج المحلى الإجمالى ومعدل التضخم ومعدل الفقر إلى حين إعادة إنتاج هذه المؤشرات وفق التعريفات الدولية المتعارف عليها. وتوجد أمثلة أخرى فى تركيا وفى جمهورية الجبل الأسود. يضاف إلى ما سبق ما سجله تاريخ الإحصاء من وقائع تم خلالها ممارسة أقسى درجات العنف ضد الإحصائيين وصلت فى بعض الأحيان إلى التصفية الجسدية، وهو ما حدث لغراتسييلا سيدلر، الشابة الأرجنتينية، التى أصدرت فى سنة ١٩٧٦ دراسة إحصائية عن أحوال الأحياء الفقيرة فى بوينس آيرس، سببت حرجًا شديدًا للديكتاتورية العسكرية، فوصفها زعيم المجلس الجنرال خورجى فيديلا بأنها مثال على تسرب المخربين إلى الحكومة. اختفت غراتسييلا بعد ذلك بوقت قصير (فى ٢٥ سبتمبر ١٩٧٦) وكانت تبلغ من العمر ٢٩ سنة. فى نفس العام، ترك كارلوس نورييغا، الذى كان آنذاك مدير المكتب الإحصائى الأرجنتينى، منصبه. وذكرت إفادات غير رسمية من زملائه فى العمل أنه أُرغم على ذلك؛ لأنه رفض طلبات من الحكومة العسكرية الجديدة بالتلاعب بالبيانات التى يصدرها المكتب الإحصائى. فى فبراير ١٩٧٧، وفى أثناء قضاء عطلة فى مار ديل بلاتا مع زوجته وأبنائه، احتُجز كارلوس بأيدى أشخاص يُعتقد أنهم يعملون فى الحكومة. ولم تعترف الحكومة أبدًا بأنه قيد الاحتجاز، ويُعتقد أنه أُعدم.
حوكمة العلاقات:
العلاقة بين الإحصاء والسياسة تختلف عن العلاقة التقليدية بين المنتج والمستهلك، والتى يتفاعل فيها الطلب والعرض على نحو يمكن نمذجته. وفى علاقة الإحصاء بالسياسة يمتلك كل طرف مصدر قوة وأوراق ضغط تسهم فى صياغة هذه العلاقة، وتحدد مِن ثَم الرابح والخاسر. فمن ناحية يمتلك الإحصاء بريق الحقيقة نظرًا للسحر الذى تمتلكه الأرقام باعتبارها «عنوان الحقيقة»، وينظر إليه فى كثير من الأحيان باعتباره الحَكم العدل معصوب العينين الذى يصدر أحكامًا مجردة غير متحيزة تعتبر بمثابة تقييم لأداء السياسيين. وعلى الجانب الآخر، يمتلك السياسيون السلطة؛ وهو ما يسمح لهم بالتأثير فى الموارد التى يتم تخصيصها لتنفيذ أنشطة جمع وتحليل ونشر البيانات، كما يملكون -لاسيما فى الدول التى لا تطبق قواعد الحوكمة- السلطة التى تسمح لهم بالتأثير فى وضع المركز الوطنى للإحصاء أو غيره من الأجهزة الإحصائية وعلى قدرته على العمل باستقلالية.
وتكمن مشروعية علم الإحصاء فى أنه يصف الظواهر الاجتماعية من خلال أرقام، ويصل إلى ذلك من خلال استخدام أساليب علمية موثوق بها؛ ومن ثم فإنه يُفترض أن يقدم حقيقة هذه الظواهر بشكل مجرد. وفى المقابل، فإن السياسيين يأملون أن تتسق هذه الأرقام مع توجهاتهم، أو تضيف مصداقية إلى السياسات والبرامج التى ينفذونها، أو يسعون إلى تنفيذها، أو توثق الإنجازات التى يدَّعون أنهم قاموا بها. والعلاقة بين الإحصائى والسياسى يحكمها حرص الإحصائى على قياس الظواهر الاجتماعية بحيادية كاملة، ورغبة السياسى فى أن يحمل هذا القياس أخبارًا سارة له؛ وإذا لم يحدث ذلك فقد يحرك السياسى آلية مضادة للتأثير فى المقاييس المعلنة أو يشكك فى نزاهتها أو يحاول لى أعناق الأرقام لتفصح عما ليس فيها. ويتوقف رد فعل السياسيين على القوة التى يتمتع بها منتج الإحصاءات وعلى قدرة المؤسسات المنتجة للمعرفة على الصمود أمام الضغوط التى قد يمارسها السياسيون. وفى غياب نظام إحصائى مستقل يعمل فى مناخ يتسم بإعمال القانون والفصل بين السلطات ويطبق قواعد المساءلة، يتمكن السياسيون من التلاعب بالمعلومات ونشرها بشكل مضلل، أو منع تداول المعلومات التى لا تحقق مصالحهم، أو عرقلة إنتاج البيانات لخلق حالة ضبابية يصعب خلالها إعمال المساءلة.
أولوية الاستقلالية:
بغض النظر عن حسابات المكسب والخسارة التى تحكم العلاقة بين الإحصاء والسياسيين؛ فإنه يمكن القول إن الإحصاء المستقل الذى لا يخضع للمواءمات السياسية يسهم فى بناء الدولة الحديثة من خلال إنتاج وإتاحة المعلومات التى تفيد فى:
■ ترتيب أولويات التنمية وفى تخصيص الموارد.
■ تحديد ومواجهة التحديات والمخاطر.
■ الاستفادة من الفرص السانحة.
■ تحديد مستويات اللامساواة وتوزيعها.
■ توقع التوترات.
■ إدارة الأزمات والأحداث الطارئة.
■ التعرف على اتجاهات وتوقعات وتفضيلات المواطنين.
■ متابعة وتقييم الأداء.
والإحصاءات المتصلة بالمجالات المشار إليها تسهم بشكل رئيسى فى ترشيد أولويات العمل الحكومى، وتجعل أية برامج أو تدخلات حكومية أكثر واقعية، ناهيك عن أنها تسمح بتقييم هذه البرامج أو التدخلات. كما أن كثيرًا من الإحصاءات المتصلة بالمجالات المذكورة أعلاه تفيد فى تحسين إدارة الدولة، كما تفيد فى تجسير الفجوة بين ما يمكن أن تقدمه الحكومات وما يتطلع إليه المواطنون؛ ومن ثم تسهم فى إدارة التوقعات، وليس فقط فى إدارة الموارد، وهو ما يساعد على بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ويدعم الاستقرار السياسى والأمن الاجتماعى.
وحتى يقوم الإحصاء بهذا الدور يجب أن تتوفر له الاستقلالية؛ وإذا ما تم التفريط فى استقلالية الإحصاء يخفق السياسيون فى الاستفادة من الإحصاء فى تحقيق كل أو معظم هذه الأدوار؛ ومن ثم تصبح المكاسب الضيقة قصيرة الأجل التى يحققها السياسيون من جراء التدخل فى مخرجات العمل الإحصائى أقل بكثير من المزايا التى تتحقق فى الأجل المتوسط أو الطويل من جراء الحفاظ على استقلالية الإحصاء؛ وهو ما يتطلب وجود نظام صارم مستدام لحوكمة العمل الإحصائى ولضمان استقلالية المؤسسات التى تنتج الإحصاءات.
* وزير الاتصالات المصرى الأسبق، والرئيس التنفيذى للمركز المصرى لبحوث الرأى العام (بصيرة)
ينشر بالتعاون مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
المصرى اليوم