يحتفل العالم فى 20 أكتوبر باليوم العالمى للإحصاء. وقد تطورت ممارسة مهنة الإحصاء على مر العصور شأنها شأن كثير من المهن، إلا أن السنوات العشر الأخيرة قد شهدت تطورًا متسارعًا نتيجة للتطور التكنولوجى الهائل فى مجال الحاسوب وما ارتبط به من تطور غير مسبوق فى القدرات الهائلة التى توفرت فى مجال سعات تخزين البيانات وسرعات نقلها والقدرات الحسابية على تحليل قواعد بيانات ضخمة فى زمن يسير.
ولعله من نافلة القول الحديث عن أهمية الإحصاء فى عملية اتخاذ القرارات سواء فى الدوائر الحكومية أو غير الحكومية، لذا سنركز فى هذا المقال على الأدوار الجديدة التى يقوم بها أو التى يفترض أن يقوم بها الإحصاء فى عالم الثابت الوحيد فيه أنه عالم متغير. ولتناول الأدوار الجديدة لمهنة الإحصاء نتناول ثلاثة جوانب وهى إنتاج الإحصاءات، وإتاحة الإحصاءات، واستهلاك الإحصاءات.
المقصود بإنتاج الإحصاءات: العمليات المنهجية والعملية المرتبطة بجمع وتجميع وتلخيص وتحليل البيانات. فى حين نقصد بإتاحة الإحصاءات كل ما من شأنه نشر هذه الإحصاءات سواء فى شكل ورقى أو إلكترونى من أجل نشر المعرفة، وأخيرا نقصد بكلمة استهلاك الإحصاءات أى استخدامها فى المجالات المختلفة.
■ التغيرات فى مجال إنتاج الإحصاءاتيشير تاريخ العمل الإحصائى إلى أن إنتاج الإحصاءات ظل لفترة طويلة أحد الأعمال السيادية للدول وكان يُعنى بالدرجة الأولى بقياس قوة الدولة ومواردها ومن ثم احتكرت الحكومات إنتاج البيانات. إلا أن تعقد إدارة الدول وتنوع مسؤولياتها ونمو ومأسسة القطاع الخاص وتطور منظمات المجتمع المدنى ساهم فى زيادة الطلب على البيانات. وظهرت مجالات جديدة متعطشة لبيانات دقيقة ومحدثة ومفصلة لزيادة كفاءة تقديم الخدمات وإنتاج السلع أو لزيادة ربحيتها.
الزيادة الضخمة فى الطلب على الإحصاءات أدت إلى استحالة قصر إنتاج الإحصاءات على الجهات الحكومية أو انفراد جهة وحيدة داخل الأجهزة الحكومية بعمليات جمع البيانات بشكل حصرى. وترتب على ذلك إعادة توزيع مسؤوليات جمع البيانات وإنتاج الإحصاءات وأصبح الحديث عن إنتاج الإحصاءات فى أى دولة لا يقترن بالجهاز الإحصائى فقط وإنما بنظام إحصائى يضم شركاء ازداد عددهم ليشملوا أجهزة حكومية أخرى وشركات خاصة وجمعيات أهلية ومؤسسات بحثية هادفة أو غير هادفة للربح. وترتب على ذلك حاجة ماسة إلى حوكمة قطاع الإحصاء والمعلومات وإلى وجود استراتيجية وطنية للعمل الإحصائى تحدد أدوار الشركاء وتنسق بينهم فيما يتعلق بالالتزام باتباع المنهجيات والتعاريف المتفق عليها دولياً.
ومن المؤكد أن يشهد المستقبل القريب طلباً على إنتاج معلومات جديدة تستجيب لمتطلبات المجتمع ومؤسساته. ولعل جائحة كوفيد-19 مثال لكيفية ظهور طلب على المعلومات لم يكن من الممكن التنبؤ به وكيف وضعت الفجوات المعلوماتية الدول بما فيها الدول المتقدمة التى تمتلك أفضل القدرات الإحصائية فى مأزق، وكيف أدى نقص المعلومات إلى محدودية قدرة الحكومات على رسم سياسات فاعلة وتصميم تدخلات تحد من الآثار السلبية للجائحة. ولعل حالة التناقض فى المعلومات الطبية الأساسية المرتبطة بكوفيد-19 وما ارتبط به من توقعات وتنبؤات متناقضة خير دليل على أهمية التوسع فى البيانات التى يجب جمعها وتبويبها استعداداً لمواقف تحيط بها درجة عالية من عدم اليقين. ولا ينسحب ذلك على الجوانب الطبية المرتبطة بالجائحة وإنما أيضاً بما صاحبها وما سيترتب عليها من تحولات اقتصادية وتحديات اجتماعية. وعلى سبيل المثال فإن إدارة الجانب الاقتصادى للجائحة بشكل فعال يتطلب توافر بيانات تسمح بتحديد القطاعات الفائزة والخاسرة من الجائحة، وأعداد وتوزيعات العمالة غير الرسمية، وتفاصيل القدرات التكنولوجية المرتبطة بالإنترنت فائق السرعة وانتشارها الجغرافى. وبالنسبة لمواجهة التحديات الاجتماعية، فإن الأمر لا يقل صعوبة إذ يتطلب الأمر توفير بيانات محدثة عن مدى التزام المؤسسات والأفراد بالإجراءات الاحترازية وعن تبعات الجائحة على الإحساس بالأمان وعلى الاستقرار الأسرى وعلى العنف داخل الأسرة وعلى كيفية التعامل مع العمل عن بعد والتعلم عن بعد وهى كلها تحديات تواجه الإحصائيين لإنتاج بيانات تراعى الاعتبارات المنهجية فى ظل ظروف استثنائية.
■ التغيرات فى إتاحة وتداول الإحصاءاتالجانب الثانى الذى نتناوله يرتبط بالتغيرات فى وسائل إتاحة وتداول الإحصاءات والتى تشمل كل ما من شأنه إعلام الجمهور العام أو الجمهور الخاص بهذه الإحصاءات بأية وسيلة كانت مقروءة أو مسموعة، ورقية أو إلكترونية. وقد تأخذ شكل جداول أو رسوم بيانية أو نصوص مكتوبة. وإتاحة الإحصاءات يجب أن تأخذ فى اعتبارها أن فلسفة العمل الإحصائى تستند إلى أن جمع البيانات يتم من أجل نشرها.
وعملية إتاحة وتداول الإحصاءات تستجيب لوتيرة الحياة التى تزداد سرعة حيث يتوقع المتلقى أن يعرف لحظياً بالظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية محل الاهتمام، ولا يقبل إحصاءات تستند إلى فترة مرجعية سابقة ويتوقع مدة زمنية محدودة بين فترة الإسناد الزمنى للبيانات ولحظة الحصول على النتائج الإحصائية، كما أن تقنيات عرض البيانات تتحول إلى الأحجام الصغيرة لتلائم النفاذ للمتلقى من خلال شاشات الهاتف المحمول.
ومن جهة أخرى فإن أسلوب عرض الإحصاءات تحول من الجدول الصماء التى تتطلب جهدا ذهنيا كبيرا فى إدراكها إلى الإنفوجرافيكس الجذاب الذى يوصل الرسالة بشكل واضح، وهو تحول له مزاياه ولكنه لا يخلو من العيوب والتى تتمثل فى أن كثيرا من العاملين فى هذا المجال يؤثرون الابهار البصرى على الدقة العلمية ويقعون فى فخ الانتقائية التى لا تعرض من الحقيقة سوى جزء يسير ومن ثم تغيب عن المتلقى الصورة الكلية للظاهرة التى تتناولها البيانات.
■ التغيرات فى استهلاك الإحصاءاتمن المتوقع أن يتسارع التطور فى مجال إنتاج البيانات وفى مجال إتاحتها وتداولها ليغزو جمهور أكبر من مستهلكى البيانات والإحصاءات. وسيحدث ذلك نتيجة لزيادة قاعدة المستخدمين وتنوع خصائصهم العمرية والثقافية والتعليمية، كما سيحدث نتيجة للتطورات التكنولوجية والتحولات الجذرية التى بدأت إرهاصاتها نتيجة لتطبيقات الذكاء الاصطناعى وإنترنت الأشياء والتى ستخلق طلباً إضافياً على البيانات وهو ما سيضيف إلى عمل منتجى البيانات مهام جديدة.
إن الإحصاءات والمعلومات هى الأساس الذى يعتمد عليه المجتمع لأحدث تراكم معرفى تمهيدا للانتقال إلى توظيف هذه المعرفة على نحو يحقق الحكمة فى التعامل مع قضايا الحاضـر والمستقـبل. ولا يتحقق ذلك إلا بإنتاج إحصاءات دقيقة صادقة محايدة محدثة واستخدامها بأسلوب موضوعى يتجنب الإثـارة والانتقائيـة. ومع التغير الذى يطرأ على الحياة نتيجة للتطور التكنولوجى أو نتيجة للأزمات الصحية والكوارث الطبيعية فإن مهنة الإحصاء ستتغير لتوائم هذه التحولات، وهذا التغير يجب أن تصاحبه تحولات ضرورية سواء فى مجال حوكمة منظومة العمل الإحصائى أو فى مجال تطوير التعليم الإحصائى.
المصرى اليوم