هل صحيح أننا لا نقدر قيمة الوثيقة الخطية، وأننا أصحاب ثقافة شفهية مرجعيتها المعرفية تكمن فيما يقال أمامنا من كلام قد يكون صحيحا أو غير صحيح؟ ذلك سؤال كثيرا ما تدفعنا الأحداث لأن نطرحه، لكن قليلا ما نجيب عنه، ونادرا ما نعمل على تدارك ما ينطوى عليه من خطر يهدد صحة معارفنا، وسلامة ذاكرتنا الجمعية، وإدراكنا لحقائق التاريخ.
وربما كانت قضية جزيرتى خليج العقبة، تيران وصنافير، هى المثال الصارخ والمؤسف لهذه الحالة التى نعيشها والتى تفرض علينا طرح هذا السؤال مجددا، فقد عجبت أشد العجب أن تكون تبعية أى منطقة جغرافية خاضعة لوجهات النظر الشخصية وليس لما تقول به الوثائق الرسمية، كأن يقول طرف: أنا رأيى ان هذه المنطقة تابعة لهذه الدولة، ويقول طرف آخر: أما أنا فرأيى أنها تابعة لدولة أخري، وأن يتصور الإعلام أنه بعرضه لهذه الآراء المتناقضة قد أدى واجبه.
لقد اتصل بى صديق اعلامى كبير طالبا استضافتى فى برنامجه الشهير لأبدى رأيى فى هذه القضية الشائكة، قائلا إن هناك فريقا يرى أن جزيرتى تيران وصنافير تابعتان للسعودية وأن وجودهما تحت الإدارة المصرية كان بالاتفاق مع السعودية، وفريق آخر يرى أنهما مصريتان وأن إعادتهما للسعودية هو تفريط فى التراب الوطني، فاستوقفته قائلا: مهلا مهلا، كيف تكون مناقشة قضايا التراب الوطنى على مستوى ما قد يكون للبعض من آراء؟ إن هذه القضايا لا تحسم الا بالوثائق الرسمية والخرائط التاريخية، لا بالرأى والرأى الآخر، فأعجبه الكلام الذى دهشت أن بدا عليه أنه يسمعه لأول مرة، وقال: عظيم! تأتى وتقول هذا الكلام، فقلت: ان كنت قد أعجبك الكلام فهذا يفرض عليك أن تعالج الموضوع بطريقة أخرى غير افساح المجال لوجهات النظر الشخصية فى الموضوع، ثم قلت: لماذا لا تطلب من معدى البرنامج أن يقوموا بواجبهم المهنى بعمل ما يسمى الصحافة الاستقصائية، فيبحثون فى الوثائق المتعلقة بالموضوع وينقبون فى التاريخ القديم والحديث، وربما يقومون بزيارة الموقع نفسه الذى يجهل معظم الناس شكله وطبيعة تضاريسه، وقبل إثارة الموضوع كان البعض يجهل أيضا اسمه، وشجعنى انصاته لأن أقول: أتصور أن يكون الهدف من البرنامج هو تقديم الخدمة الصحفية التى أصبح الجمهور يفتقدها، والتى تستمد منها المهنة اسمها، فمهمة الإعلام هى إعلام الناس بالحقائق، وهذا لا يتأتى الا بالدراسة والبحث حتى تنجلى الحقيقة، لكن ماذا يفيد القارئ ان يستمع لرأى ضيف فى هذا الموضوع فى مقابل رأى مناقض لضيف آخر؟ بينما الحقيقة، قد تكون غائبة عن الاثنين؟
وقد انهيت حديثى مع الاعلامى الكبير مؤكدا أنه بالتحقيق الاستقصائى يكون قد قدم خدمة جليلة للرأى العام وانفرد بين بقية البرامج فى أنه احترم عقلية المشاهد وقام بمهمة الاعلام المقدسة. لكنى حين شاهدت البرنامج بعد ذلك وجدته قد اكتفى باستضافة ضيفين أحدهما سياسى موال للحكومة قال إن الجزيرتين سعوديتان، والثانى برلمانى معارض قال إنهما مصريتان، وانتهى البرنامج، مثل بقية البرامج التى تطرقت الى الموضوع، وقد عرف المشاهد من مع الحكومة ومن ضدها، لكنه لم يحسم أمر الجزيرتين لأنه لم يطّلع على وثيقة واحدة تحدد المالك الفعلى والشرعى لهما.
ثم حدث ما هو أغرب من ذلك، وهو أننى وجدت أن من يتخذ من الوثائق المرجعية الواجبة ويقوم بتصحيح موقفه على ضوئها، يتعرض للانتقاد على أساس أنه لم يثبت على موقفه، فقد صرحت د. هدى عبدالناصر اعتمادا على الموقف المصرى خلال حرب 1967 وسعى مصر للسيطرة على خليج العقبة المؤدى الى ميناء اسرائيل الوحيد على البحر الأحمر، ان الجزيرتين بحسب كلام الرئيس جمال عبدالناصر مصريتان، لكنها حين عادت الى الوثائق ووجدت ما يثبت غير ذلك لم تتوان عن الاعلان أن وثائق الرئيس عبد الناصر نفسه تثبت أنهما سعوديتان، لكننا بدلا من أن نثمن احترامها للوثائق وجهنا اليها النقد لأنها غيرت موقفها، وكأن العودة الى الحق ليس فضيلة.
لقد نشر أخيرا المركز المصرى لبحوث الإعلام «بصيرة» استطلاعا للرأى يشير الى أن 30% ممن تم استطلاع رأيهم من المصريين يَرَوْن أن الجزيرتين مصريتان، و23% يَرَوْن أنهما سعوديتان، والباقى لا يعرفون(!) وهذه النتيجة انما تقول إنه رغم أن الصحافة والإعلام لا يناقشون غير هذا الموضوع منذ بداية طرحه عند زيارة العاهل السعودى لمصر، الا أن نصف الشعب المصرى (47%) لم يطلعوا حتى الآن على ما يجعلهم يتوصلون إلى الحقيقة.
وإذا كان نصف الشعب لا يعرف الحقيقة فى مثل هذا الموضوع الهام والحيوى بكل المقاييس، فغلطة من هذه؟ أبادر على الفور بالقول إنها فى البداية غلطة الحكومة، ففى مثل هذه القضايا الوطنية لا يمكن أن يصحو الناس يوما فيقال لهم إن جزيرتين تابعتين لمصر ستنتقل تبعيتهما من اليوم الى السعودية. ولا أقصد أن الحل كان يكمن فقط فى الاعلان عن هذا الموضوع مسبقا، أى قبل زيارة العاهل السعودي، فالاكتفاء بالاعلان عن الموضوع فى أى وقت من الأوقات كان سيحدث نفس البلبلة التى يحدثها الآن، وانما أقصد أنه كان يجب اشراك الرأى العام فى مختلف مراحل القضية، منذ طالبت السعودية بالجزيرتين، مع شرح الظروف التاريخية التى أحاطت بهما وأدت الى وقوعهما تحت الاحتلال المصري، وكان يمكن أن يتم الاتفاق مع السعودية على تشكيل لجنة مشتركة تضم بعض الكفاءات القانونية الدولية لدراسة الوثائق الرسمية الخاصة بالقضية والخرائط المتصلة بها، وفقط بعد إعلان اللجنة النتيجة التى توصلت إليها يتم تسليم الجزيرتين إلى السعودية خلال الزيارة التى كانت معدة للعاهل السعودي.
ان مثل هذا المنهج يحقق الشفافية التى يتطلبها التعامل مع القضايا الوطنية، ويسهم فى استجلاء الحقيقة أمام الرأى العام، سواء فى مصر أو فى السعودية أو أمام العالم أجمع، وهكذا نكون قد أعطينا مثالا لكيفية احترام رأى الشعب وإقرار حقه فى المعرفة والمشاركة فى اتخاذ القرار، وربما نكون قد أعطينا مثالا أيضا لسائر الدول العربية فى كيفية التعامل مع المناطق الجغرافية المتنازع عليها بدلا من أساليب الغزو، وفرض الأمر الواقع والتى أدت فى تفاقمها الى الحروب، وفى سكونها الى التوتر والاضطراب فى علاقات الدول الشقيقة.
لكن خطأ الحكومة كان من الممكن تداركه بسهولة لو أن الإعلام قام بدوره فى إعلام الناس بحقائق القضية من خلال البحث الاستقصائى الذى يتخذ مرجعيته من الوثائق وليس من وجهات نظر ضيوف البرامج الحوارية.
الإهرام