نشرت مؤسسة «بصيرة» لاستطلاعات الرأى العام فى سلسلة أرقامها الدورية أن ٨٠٪ من سكان العالم يستحوذون على ٦٪ فقط من ثروة العالم. وأرجو ألا تكون الصدمة أكبر عندما تعرف من الخبر ذاته أن أغنى ١٪ من سكان الكوكب لديهم نصف- أى ٥٠٪- من ثروات الدنيا. هذه الإحصائيات سليمة وصحيحة تماما، وتنطبق على بلدان العالم المتقدمة، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، وكذلك على بلدان العالم الصاعدة، مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، ومن هى على شاكلتها. لكن للصورة المأساوية البادية فيما سبق جانب آخر أتى فى مقال «ستيفين راديليت»، فى دورية «الفورين أفييرز» أو الشؤون الخارجية- عدد يناير ٢٠١٦- بعنوان «صعود الرخاء: نجاح التنمية الكونية وكيف نجعل ذلك مستمرا».
المقال يقول لنا إنه منذ بداية التسعينيات من القرن الماضى فإن الحياة فى البلدان الفقيرة تغيرت بشكل جوهرى إلى الأفضل، وإن ملياراً (أى ألف مليون) قد تخرجوا من حالة الفقر المدقع، وتراجعت بشكل كبير معدلات وفيات الأطفال الرضع، وإن الملايين من الفتيات دخلن إلى المدارس، وإن المجاعة الدورية قد تراجعت إلى نصف ما كانت عليه، كما تراجعت بشدة الوفيات الناتجة عن الأمراض المتوطنة مثل الملاريا والإيدز، كما انتشرت الديمقراطية فى بلدان كثيرة، وفيما عدا الشرق الأوسط، فإن الحروب فى العالم انخفضت إلى النصف. هذا التقدم حتى لا يخطئ أحد يتعدى ما حدث فى الصين والهند، بل إنه انتشر فى بلدان أخرى عبر الأرض من مانغوليا إلى موزمبيق، ومن بنجلاديش إلى البرازيل.
الأرقام تؤيد هذه المعلومات، وفى عام ١٩٩٣ كان هناك ملياران من البشر يقعان فى دائرة الفقر (مقدراً بحوالى دولارين فى اليوم طبقاً للبنك الدولى)، وفى عام ٢٠١٢ انخفض هذا الرقم إلى أقل من النصف. التقدم فى الصين لا شك حمل قدرا كبيرا من هذه النتيجة، ولكن ٤٠٠ مليون من خارجها تخرجوا من دائرة الفقر الجهنمية، وهناك ٦٠ دولة فى العالم انخفض عدد فقرائها، بينما ارتفع عدد سكانها. وفى عام ١٩٦٠ فإن ٢٢٪ من الأطفال فى الدول النامية لقوا حتفهم قبل عيد ميلادهم الخامس، وفى ٢٠١٣ انخفضت النسبة إلى ٥٪. ارتفع العمر المتوقع عند الميلاد من ٥٠ عاما فى عام ١٩٦٠ إلى ٦٥ الآن. وفى نهاية الثمانينيات من القرن الماضى فإن ٧٢٪ من الأطفال فى سن التعليم وجدوا مكاناً لهم فى المدارس، الآن بلغت النسبة ٨٧٪. فى عام ١٩٨٣ كان هناك ١٧ دولة فقط من الدول النامية يمكن أن توصف بالديمقراطية، فى عام ٢٠١٣ أصبحت ٥٦ دولة.
يمكنك أن تعود إلى المقالة الأصلية لكى تعرف المزيد من الأرقام عما جرى من تقدم، ولن تعدم أيضا معرفة أسبابه من التقدم التكنولوجى، إلى العولمة، إلى الإرهاق من الحروب وانتهاء الحرب الباردة، إلى انتشار المعرفة بكيفية تقدم الأمم. ما يهمنا هنا هو ملاحظة المفارقة بين ما بدأنا به هذا المقال، وهو أنه لا يوجد مجال للشك أن الفجوة بين الفقراء والأغنياء كنصيب من الثروة العالمية، وأيضا الثروة الوطنية، تتزايد.
ولكنه لا يوجد مجال للشك أيضا أنه فى ظل هذه الحقيقة أن مزيدا من الفقراء يتخرجون من دائرة الفقر إلى دائرة أخرى ربما نقول عنها الستر، حيث يعيش الأطفال ويتعلمون وتكون لديهم فرص عمل متزايدة الدخل. المسألة الواضحة هى أن القول الذائع عن الأغنياء الذين يزدادون غنى مقابل الفقراء الذين يتزايدون فقرا غير صحيح، أو ليس صحيحا فى كل الأحوال، وبالتأكيد ليس على مستوى العالم. ومن الممكن أن يزداد الأغنياء غنى، بينما يزداد الفقراء غنى أيضا، فالحقيقة أن المعادلة الصفرية لا وجود لها فى الواقع، وإنما المعادلة غير صفرية فى جوهرها.
فلم يكن الغنى على سبيل المثال هو الذى اخترع وأسس شركة «آبل» أو «مايكروسوفت»، ولا يوجد شرط للغنى حتى يصمم فقير برنامجا يجد له تسويقا عالميا، أو تحسينا فى مستوى إنتاجية محصول أو منتج. التغيير الذى حدث فى العالم ولايزال جاريا لا يعود إلى غنى الأغنياء ووصولهم إلى حد يتساقط منه بعض من الفائدة للفقراء، وهى مقولة كثيرا ما تلقى استهزاء من اليسار. المسألة ليست كذلك فهى من ناحية لها جوانبها التكنولوجية، والمعرفة العالمية بطرق التقدم، ولكن فيها أيضا أن مقولة كارل ماركس عن حالة «الوفرة» التى تتزايد لدى الرأسمالية قد وصلت إلى حدود لم يتخيلها، ولم يتخيل معها إمكانية خلق أسواق جديدة من الفقراء، ولذا كان الاهتمام بالصين والهند أولا، ومن بعدها إندونيسيا والبرازيل وبنجلاديش ونيجيريا وجنوب أفريقيا ودول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية.
لماذا لم يحدث ذلك عندنا؟ وعلى العكس فإن نسبة الفقراء تتزايد منذ مطلع الألفية، والإجابة هى لأننا لا نتحدث عن زيادة ثروة الجميع، وإنما عن «توزيع الثروة»، و«العدالة الاجتماعية»، الذى يعنى عمليا حرمان الفقير من قدرة الغنى على الاستثمار، مكتفياً بالدعم الذى فى العادة يأخذ منه الغنى الأكثر مهارة وتعليماً واستهلاكاً النصيب الأعظم. إذا كنا نريد ركباً مختلفاً، رجاء قراءة المقال من أوله!!.
المصرى اليوم