نشأت استطلاعات الرأى العام فى الدول الديمقراطية كتوأم للانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وليس من قبيل المبالغة القول إن الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة الأمريكية كانت هى سبب ميلاد استطلاعات الرأى العام، وإنها كانت الدافع وراء الاهتمام المتزايد والتطوير المستمر لطرق قياس الرأى العام، وأيضاً لتحسين دقة التنبؤ بنتائج الانتخابات. ولم تخل هذه المحاولات من إخفاقات أدت إلى مراجعات دورية فى أساليب وآليات القياس. وساهمت الطفرات المتلاحقة لتكنولوجيا الاتصالات لتكنولوجيات نقل وتخزين وتحليل المعلومات فى استحداث أساليب جديدة للقياس، وهو ما ساهم فى انتشار استطلاعات الرأى العام بشكل كبير.
أما الدول التى تحكمها أنظمة غير ديمقراطية فلا تشهد عادة قياسات علمية لاتجاهات الرأى العام، لعدم اكتراث النخب الحاكمة برأى الجماهير، خصوصا فى ظل انعدام عملية تداول السلطة. وتكمن المشكلة الأساسية فى إجراء قياسات الرأى العام فى مثل هذه الأنظمة فى أن الفئات المستضعفة عادة ما تؤثر السلامة، ولا تفصح عن رأيها بصراحة، إذا ما كانت أسئلة استطلاعات الرأى العام متعلقة بالشأن السياسى. وتميل هذه الفئات إلى الإدلاء بالرأى، الذى يتماشى مع النظام العام للمجتمع أو الرأى الذى لا يسبب أى ضرر لصاحبه، إذا ما تم كشف خصوصية المدلى بالبيانات. وهنا تصبح نتائج الاستطلاعات ذات الطبيعة السياسية مضللة، حتى إن تحرى القائمون عليها الاعتبارات المهنية والأخلاقية فى القياس، لأن الخوف الذى يتملك القلوب يعقد الألسنة، فتأتى الآراء منافية للحقيقة.
والتجربة المصرية فى السنوات الأخيرة تشير إلى أن الفئات غير المستضعفة كانت تعبر بحرية عن رأيها، وتتبنى آراء سياسية تتعارض مع الاتجاه العام لمؤسسات الدولة، وكانت واضحة فى توجيه الانتقادات للسياسات العامة. ويتجلى ذلك فى التفاوت الواضح، الذى كنا نلاحظه بين الاستجابات للأسئلة ذات الطبيعة السياسية، حسب العمر والمستوى التعليمى والمستوى الاقتصادى، لكن ظلت حرية التعبير عن الرأى تتناسب طردياً مع درجة التمكين الاقتصادى والاجتماعى الذى يتمتع به المواطن، لتثبت أن الأقل تعليماً والأقل دخلاً يفضلون مهادنة النظام السياسى السائد.
ولاشك أن ثورة 25 يناير بكل ما حملته من تحولات فى المجتمع المصرى فرضت واقعاً جديداً يتطلع فيه المصريون إلى تبنى نظام جديد تسوده العدالة والكرامة، كما أن المشهد المصرى الحالى يشير بوضوح إلى تراجع الخوف من التعبير عن الرأى، والذى كان سائداً بين الفئات المستضعفة. وهذه المعطيات الجديدة تفتح الباب على مصراعيه لإجراء استطلاعات للرأى العام لا تكبلها قيود تسلط الحاكم، ولا يفسدها الخوف من التعبير عن الرأى. وتأتى الانتخابات الرئاسية المصرية بكل ما يتصل بها من مستجدات، لتزيد الحاجة إلى إجراء استطلاعات رأى حول المرشحين لهذا المنصب المهم فى فترة زمنية استثنائية ليس فقط فى تأثيرها على مستقبل الأمة، لكن أيضاً فيما يحيط بها من غموض وعدم تأكد، وفى التغيرات السريعة للخريطة السياسية التى لم يشهدها المجتمع المصرى من قبل.
والإشكالية الرئيسية التى تحيط باستطلاعات الرأى العام عموماً وباستطلاعات الرأى العام المتعلقة بانتخابات الرئاسة على وجه الخصوص تكمن فى الحكم على الاستطلاعات من خلال نتائجها. فعادة ما تأتى نتائج الاستطلاعات لصالح طرف وضد طرف، وهو ما يترتب عليه تشكيك من الطرف المتضرر، كما أن المتلقى لنتائج استطلاعات الرأى العام يتعاطف عادة معها، إذا توافقت مع توقعاته، ويفتر تعاطفه إذا جاءت النتائج مخالفة لهذه التوقعات، مع التسليم بأن رد الفعل غير الموضوعى هو أمر غير مستغرب، لأن المتلقى – فى هذه الحالة - يرى أن رأيه هو المرجعية التى يقاس عليها رأى المجتمع وليس العكس.
والأولى من الحكم على الاستطلاعات من منظور ذاتى أن يتم الحكم عليها فى إطار موضوعى يُقيم من خلاله المتلقى الاعتبارات المهنية والأخلاقية المتبعة فى القياس، فإذا اطمأن لها وجب عليه أن يقبل النتائج المترتبة عليها، حتى إن اختلفت مع توقعاته. ونشير هنا إلى أن الأصل فى الأمور أن يتم منح الثقة أو سحبها من الاستطلاع بناء على اتباع الاعتبارات المنهجية، مثل تصميم العينة وحجمها وأسلوب اختيار مفرداتها وصياغة الأسئلة وحجم خطأ المعاينة ونسب الاستجابة. فإذا اطمأننا إلى استيفاء الاستطلاعات هذه الشروط فيجب أن يتم التعامل مع النتائج، باعتبارها جديرة بالثقة، حتى إن كانت لا تتفق مع توقعاتنا.
وهنا نشير إلى أنه إذا قررنا عدم قبول أى نتائج صادرة عن بحوث علمية، لأنها لا تتفق مع توقعاتنا لما كانت هناك حاجة أصلاً لإجراء أى بحوث أو دراسات أو تجارب علمية، ولما اعترفنا بكروية الأرض أو دورانها حول الشمس. وهذا التعامل الانتقائى مع نتائج استطلاعات الرأى العام يشير إلى حاجة ماسة لأن نحكم العقلية العلمية فى التعامل مع الأمور، وأن نرسى القاعدة القائلة بأن «الجهل بالشىء لا ينفى وجوده». إن وجود فجوة بين النتائج الصادرة عن استطلاعات الرأى العام وتوقعات المتلقى لهذه النتائج، يجب ألا يترتب عليه رفض عصبى للنتائج، ويجب ألا تختزل فى تشكيك متسرع وغير مبرر فى مصداقية هذه النتائج، وإنما يجب أن نتجاوز ذلك إلى محاولة لفهم وتفسير وتأويل الفجوة بين النتائج والتوقعات.
وفى نفس الوقت يجب ألا ينظر إلى استطلاعات الرأى العام على أنها المصدر الوحيد للحقيقة المجردة، لكن باعتبارها إحدى الأدوات التى لا تتنافى، وإنما تتكامل مع أدوات أخرى للتحليل العلمى.
وفى ضوء أهمية إجراء استطلاعات الرأى العام فى هذه المرحلة الفاصلة فى تاريخ مصر، وفى ضوء أهمية أن تأتى هذه النتائج مبنية على منهج علمى رصين ومنهج أخلاقى قويم فإن الحديث عن الحاجة إلى مراكز جديدة لقياس الرأى العام هو أمر يجب أن يشجعه المجتمع المصرى بكل مؤسساته، باعتباره «صناعة» تزدهر، إذا ما تم إطلاق المنافسة بين المنتجين.
وإن كان حديثنا اليوم قد ركز على أهمية استطلاعات الرأى العام فى فترات التحول الديمقراطى، إلا أن استطلاعات الرأى العام تتجاوز ذلك، باعتبارها إحدى الأدوات المهمة لإحداث الإصلاح السياسى ولإرساء الحكم الرشيد. فاستطلاعات الرأى العام تسهم فى تحقيق مبدأ المساءلة من خلال الاهتمام برأى المواطن فى أداء أجهزة الدولة وكفاءة تقديم الخدمات، وتسهم فى تحقيق مبدأ المشاركة، من خلال التعرف على رأى المواطن فى التعامل مع المشكلات التى تواجه المجتمع، بحيث يصبح جزءاً من الحل وليس جزءًا من المشكلة
المصري اليوم